عيسى محمد
10-18-13, 11:42 AM
https://fbcdn-sphotos-f-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash3/p480x480/1238254_628487577197470_683713022_n.jpg (https://fbcdn-sphotos-f-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash3/p480x480/1238254_628487577197470_683713022_n.jpg)
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
[الرعد:13/ 12]
ــــــــــــــــــــــــــ
لم يصطحب الأوربي، عندما حل بالعالم الإسلامي في مطلع القرن الأخير من العالم المسيحي سوى بعض استعدادات نفسه، تلك النفس الطيبة التي تكشف النظرة الفاحصة داخلها عن مجمع للفضائل الجذبية، تميزت بها نفس مغلقة كثيفة تجاه المسلمين.
والواقع أن النفس المسيحية في خارج إطارها، أعني في صِلاتها الواقعية بالعالم الإسلامي، تنقلب إلى نفس مستعمِرة، غذت طموحها- قبل إبحارها إلى شواطئ البربر أو سواحل الهند أو جزر السند- بأحاديث سمر عن منطقة كنوز خيالية في (الألدرادوس)، والقوم جلوس حول المدفأة، فهي تبحث بدورها لاكتشاف كنوز (بيرو)، إذ لم تشهد الإنسانية تعطشاً عارماً إلى الذهب، كما كان ذلك بعد اكتشاف المستعمرات.
ومع ذلك فنحن لا نريد هنا أن نصدر حكماً أخلاقياً، بل إننا ننظر إلى المسألة نظرة اجتماعية، فإن الأوربي قد قام منذ قرنين بدور نافع في تاريخ العالم، ومهما كان في موقفه من انفصال عن بقية الإنسانية المحتقرة في نظره، والتي لا يرى فيها سوى سلم إلى مجده، فإنه قد أنقذ العالم الإسلامي من فوضى القوى الخفية، التي يغرق فيها كل مجتمع يستبدل الخيال الساذج بالروح. والخيال الساذبخ ظِلّ مشوه لتصورات المعتوهين الذين فقدوا ببعدهم عن معنى الواقع عبقرية الأرض.
لقد منح نشاط الأوربي- إنسان ما بعد الموحدين- إلهاماً جديداً لقيمته الاجتماعية، حين نسف وضعه الاجتماعي الذي كان يعيش فيه راضياً بالدون، وحين سلبه وسائله التي كان يتبطل بها هادئ البال حالاً. فإنسان أوربا قام - دونما قصد- بدور (الديناميت) الذي نسف معسكر الصمت والتأمل والأحلام، وبذلك شعر إنسان ما بعد الموحدين، كما شعر بوذي الصين وبرهمي الهند، بهزة انتفض بعدها مستيقظاً، ليجد نفسه في إطار جديد لم تصنعه يداه، وأمام ضرورتين ملحتين: فهو ملزم- على الرغم من تأخره وانحطاطه- بأن يحافظ على الحد الأدنى من كرامته، وهو أمر يتطلبه الإسلام لجميع معتنقيه، حتى في المجتمعات البدائية في إفريقية الوسطى، وهو ملزم أيضاً بأن يضمن لنفسه الحد الأدنى من الحياة، في مجتمع قاس، لا يعول البتة صعلوكاً يعيش على الغارة، أو متزهداً يعيش على صدقات الناس، أو ولداً محظوظاً يعيش على موارد أسرته، فقد زالت من الوجود كل إمكانيات التبطل منذ ذلك الحين.
لقد وجد المسلم أن عليه أن يبحث عن أسلوب في المعيشة يتفق وشرائط الحياة الجديدة، في المجالين: الخلقي والاجتماعي.
ولسوف نجد أن الحركات التاريخية، ستتولد عما قريب من ذلك البحث الغامض، الذي امتزج بقلق قديم خلفته في الضمير الإسلامي منذ قرون كتب ابن تيمية، وهي الحركات التي ستخلع على العالم الإسلامي صبغته الراهنة.
هذه الحركات قد صدرت عن تيارين: تيار الإصلاح الذي ارتبط بالضمير المسلم، وتيار التجديد وهو أقل عمقاً، وأكثر سطحية، وهو يمثل مطامح طائفة اجتماعية جديدة تخرجت في المدرسة الغربية، ومن أمثلتها الحركة الجامعية التي قامت في (عليكرة) بالهند (1).
__________
(1) زعيم هذه الحركة هو السيد (أحمد خان) المصلح الإسلامي المشهور (1817 - 1898) وقد حدد لجامعته أغراضاً ثلاثة: أن تعم المسلمين الثقافة الغربية والشرقية في غير تعصب =
أما التيار الأول: فيبدو أنه قد خط طريقه في الضمير المسلم منذ عصر ابن تيمية، كما يخط تيار الماء مجراه في باطن الأرض، ثم ينبجس هنا وهناك من آن لآخر، وابن تيمية لم يكن (عالماً) كسائر الشيوخ، ولا متصوفاً كالغزالي، ولكن كان مجاهداً يدعو إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي. هذا التيار هو الذي أدى إلى تكوين إمبراطورية الموحدين القوية في إفريقية الشمالية على يد (ابن تومرت)، وهو الذي أدى إلى إنشاء دولة الوهابيين في الشرق على يد (محمد بن عبد الوهاب)، ثم اكتسحها محمد علي بإيعاز من الباب العالي، وتأييد من الدول الغربية عام 1820، ومع ذلك فقد بقي روح الوهابية حياً، حتى تمكن القائمون بها من الظهور مرة أخرى عام 1925 في صورة المملكة الوهابية الحديثة.
بيد أننا نلاحظ هنا أن هذه الحركة قد وجدت منذ سقوط الدولة الوهابية الأولى، أي منذ قرن تقريباً، الضمير الذي يعكسها لدى العالم الإسلامي الحديث، ضمير (جمال الدين الأفغاني)، الذي فرّ في شعف الجبال هرباً من طابع المهانة الذي كان يلصقه مجتمع ما بعد الموحدين بالفرد، ليجعل منه ضحية أو متملقاً.
لقد كان جمال الدين- إلى جانب أنه رجل (فطرة) - رجلاً ذا ثقافة فريدة عُدَّت فاتحة عهد (رجل الثقافة والعلم) في العالم الإسلامي الحديث، ولعل هذه الثقافة هي التي دفعت الشبيبة المثقفة على إثره في اسطنبول وفي القاهرة وفي طهران، وهي الشبيبة التي سيكون من بينها قادة حركة الإصلاح.
لقد حاول المستشرق (جب) أن يشكك في مواهب هذا الرجل العقلية،
__________
= ولا جمود، وأن يعنى فيها بحياة الطلبة الاجتماعية، وأن يعنى نظام الكلية بترقية العقل وترقية البدن، أي بالتربية والتعليم معاً. وقد كان المبدأ الذي سارت عليه هو: الإقبال على العلم والبعد عن السياسة، وإن كانت قد تعرضت من أجل هذا لنقد شديد. ((المترجم))
ولكن الذي لا شك فيه أنه أول من جرؤ منذ قرن على التحدث عن (الوظيفة الاجتماعية للأنبياء)، في عالم ساقط هو (عالم ما بعد الموحدين).
ولقد شاءت الأقدار أن تجعل من هذا الرجل في التاريخ الشاهد الصادق، والحكم الصارم على مجتمع انتهى أمره في هدوء إلى الانحلال، بينما أخذ الاستعمار يستقر على أرضه. ويبدو أن الباعث الحقيقي الذي غرس في ضمير هذا الرجل إرادة إصلاح مجتمعه إنما هو ثورة (السيباي) التي أخمدت بالدماء؛ لقد شهد جمال الدين في هذه المأساة مشهد الإفلاس الروحي والمادي في العالم الإسلامي، وهو إفلاس استتبعه فشل تلك الثورة وأكدته في صورة ما حركة (عليكرة) التي ظهرت بالهند عقب تلك الأحداث الدامية، ف كانت بمثابة خيانة للإسلام والمسلمين في نظر جمال الدين، وبذلك أعلن على الفور الحرب ضد النظم البالية، وضد الأفكار الميتة.
وكان هدفه الأول: أن يقوض دعائم نظم الحكم الموجودة آنداك، كيما يعيد بناء التنظيم السياسي في العالم الإسلامي على أساس (الأخوة الإسلامية) التي تمزقت في (صفين)، وبددتها النظم الاستعمارية نهائياً، وكان هدفه الثاني: أن يكافح (المذهب الطبيعي) أو (المذهب المادي) الذي يعتقد أنه كامن في تعاليم (أحمد خان) التي كان ينشرها في جامعة (عليكرة)، وأنه راجع إلى التأثير الخفي لأفكار الغرب، ولقد يبدو أن موقفه هذا يحمل طابع (الرجعية) إذا ما استخدمنا المصطلح الحديث، لا سيما أن هذه الحركة الجامعية المتهمة، قد اتضح فيما بعد أنها كانت عاملاً قوياً في نهضة الإسلام بالهند. ولكنا لكي نستطيع إصدار مثل هذا الحكم على رجل كان باعثاً- غير منازع- للحركة الإصلاحية الحديثة، ينبغي أن نثبت أن مجادلته لم تفد في توجيه تعاليم (عليكرة) فيما بعد، حين فرضت عليها تعديل اتجاهها.
ويبدو أننا هنا أمام حالة جد شبيهة بما جرى في الجامعة المصرية بعد قرن من الزمان، عندما نشر أحد أساتذتها إحدى النظريات الخطيرة (1)، هل يمكن لأحد أن يثبت في هذه الحالة أن موقف خصوم تلك النظرية- وخاصة السيد رشيد رضا- كان سلبياً سلبية لم يكن معها تأثير معدِّل لاتجاه الثقافة المصرية فيما بعد؟ ..
إن إثباتاً كهذا سيكون عرضة للتكذيب، حتى من جانب ما كتبه الدكتور طه حسين فيما بعد. وأية كانت وجهة الأمر فإن دور (جمال الدين) لم يكن دور مفكر يتعمق المشكلات لينضج حلولها، فإن مزاجه الحاد لم يكن ليسمح له بذلك، لقد كان قبل كل شيء مجاهداً، ولم تكن ثقافته النادرة سوى وسيلة جدلية، مهما هبطت أحياناً إلى مستوى الجماهير، فأصبحت وسيلة نشاط ثوري.
لقد كان لهذا النشاط أهمية نفسية وأدبية أكثر من أن تكون له أهمية سياسية في العصر الذي كان يعيش فيه، حين كان العالم الإسلامي غارقاً في خمود شامل، وكان من فائدة هذا النشاط أنه فجر المأساة الإسلامية في الضمير المسلم ذاته. ولكن يبدو أن استيقاظ هذا الضمير بما احتوى من مأساة، لم يكن جزءاً من خطة منهجية وضعها جمال الدين، فإن كتاباته القليلة التي تميزت بالجدل ضد الطبيعيين، أو ضد (أرنست رينان)، لا تثبت شيئاً من هذا. بيد أنه إذا لم يكن جمال الدين قائداً أو فيلسوفاً للحركة الإصلاحية الحديثة، فلقد كان رائدها، حين حمل ما حمل من القلق، ونقله معه أينما حل، وهو القلق الذي ندين له بتلك الجهود المتواضعة في سبيل النهضة الراهنة، وكان رائدها أيضاً حين جهد في سبيل إعادة التنظيم السياسي للعالم الإسلامي، وإن كان قد قصد بذلك التنظيم: تنظيم جموع الشعب وإصلاح القوانين، دون أن يقصد إلى إصلاح الإنسان الذي صاغه عصر ما بعد الموحدين.
لقد أدرك جمال الدين بصادق فطنته، ما أصاب مجتمعه من عفونة وفساد،
__________
(1) نظرية الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي) 1926.
فاعتقد أنه بدلاً من أن ينصرف إلى دراسة العوامل الداخلية التي أدت إلى هذا الوضع، يستطيع أن يقضي عليه، بالقضاء على ما يحيط به من نظم وقوانين.
وربما كان هذا الرأي صادقاً، لو أنه أدى إلى الثورة الضرورية، فإن الثورات تخلق قيماً اجتماعية جديدة صالحة لتغيير الإنسان، بيد أن جمال الدين لم يحسن تشخيص الدافع إلى تلك الثورة، وما كان لثورة إسلامية أن تكون ذات أثر خلاق، إلا إذا قامت على أساس ((المؤاخاة)) بين المسلمين، لا على أساس (الأخوة) الإسلامية- وفرق ما بين (المؤاخاة) وبين (الأخوة): فإن الأولى تقوم على فعل ديناميكي، بينما الثانية عنوان على معنى مجرد، أو شعور تحجر في نطاق الأدبيات.
و (المؤاخاة) الفعلية: هي الأساس الذي قام عليه المجتمع الإسلامي .. مجتمع المهاجرين والأنصار. فإذا كان جمال الدين باعث الحركة الإصلاحية ورائدها، وما زال بطلها الأسطوري في العصر الحديث (1)، فإنه لم يكن في ذاته (مصلحاً) بمعنى الكلمة.
وبذلك كان على الشيخ (محمد عبده) أن يواجه مشكلة الإصلاح في شتى نواحيه: كان الشيخ عبده مصرياً أزهرياً، ومصر منذ عهود سحيقة أمة زراعية مرتبطة بالأرض، أي أنها كانت على طول التاريخ مجتمعاً يتكون فيه الفرد وسط جماعة، فهو لذلك مزود بغريزة الحياة الاجتماعية، والأزهر من ناحية أخرى كان يمد الحياة الاجتماعية بعقليات متمسكة بدينها، محافظة على أصولها.
وبهذا التكوين واجه الشيخ عبده مشكلة الإصلاح، فبعد أن أدرك حقيقة
__________
(1) تحدث الكاتب الجزائري (علي الهمامي) - المقيم الآن بمصر- عن السيد جمال الدين الأفغاني في كتاب له عن سيرته فقال: ((لسوف تذكر البلاد الإسلامية جميعاً اسم جمال الدين كما تذكر بلاد اليونان اسم (هوميروس) بين الخالدين من أبنائها)) 1954.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
[الرعد:13/ 12]
ــــــــــــــــــــــــــ
لم يصطحب الأوربي، عندما حل بالعالم الإسلامي في مطلع القرن الأخير من العالم المسيحي سوى بعض استعدادات نفسه، تلك النفس الطيبة التي تكشف النظرة الفاحصة داخلها عن مجمع للفضائل الجذبية، تميزت بها نفس مغلقة كثيفة تجاه المسلمين.
والواقع أن النفس المسيحية في خارج إطارها، أعني في صِلاتها الواقعية بالعالم الإسلامي، تنقلب إلى نفس مستعمِرة، غذت طموحها- قبل إبحارها إلى شواطئ البربر أو سواحل الهند أو جزر السند- بأحاديث سمر عن منطقة كنوز خيالية في (الألدرادوس)، والقوم جلوس حول المدفأة، فهي تبحث بدورها لاكتشاف كنوز (بيرو)، إذ لم تشهد الإنسانية تعطشاً عارماً إلى الذهب، كما كان ذلك بعد اكتشاف المستعمرات.
ومع ذلك فنحن لا نريد هنا أن نصدر حكماً أخلاقياً، بل إننا ننظر إلى المسألة نظرة اجتماعية، فإن الأوربي قد قام منذ قرنين بدور نافع في تاريخ العالم، ومهما كان في موقفه من انفصال عن بقية الإنسانية المحتقرة في نظره، والتي لا يرى فيها سوى سلم إلى مجده، فإنه قد أنقذ العالم الإسلامي من فوضى القوى الخفية، التي يغرق فيها كل مجتمع يستبدل الخيال الساذج بالروح. والخيال الساذبخ ظِلّ مشوه لتصورات المعتوهين الذين فقدوا ببعدهم عن معنى الواقع عبقرية الأرض.
لقد منح نشاط الأوربي- إنسان ما بعد الموحدين- إلهاماً جديداً لقيمته الاجتماعية، حين نسف وضعه الاجتماعي الذي كان يعيش فيه راضياً بالدون، وحين سلبه وسائله التي كان يتبطل بها هادئ البال حالاً. فإنسان أوربا قام - دونما قصد- بدور (الديناميت) الذي نسف معسكر الصمت والتأمل والأحلام، وبذلك شعر إنسان ما بعد الموحدين، كما شعر بوذي الصين وبرهمي الهند، بهزة انتفض بعدها مستيقظاً، ليجد نفسه في إطار جديد لم تصنعه يداه، وأمام ضرورتين ملحتين: فهو ملزم- على الرغم من تأخره وانحطاطه- بأن يحافظ على الحد الأدنى من كرامته، وهو أمر يتطلبه الإسلام لجميع معتنقيه، حتى في المجتمعات البدائية في إفريقية الوسطى، وهو ملزم أيضاً بأن يضمن لنفسه الحد الأدنى من الحياة، في مجتمع قاس، لا يعول البتة صعلوكاً يعيش على الغارة، أو متزهداً يعيش على صدقات الناس، أو ولداً محظوظاً يعيش على موارد أسرته، فقد زالت من الوجود كل إمكانيات التبطل منذ ذلك الحين.
لقد وجد المسلم أن عليه أن يبحث عن أسلوب في المعيشة يتفق وشرائط الحياة الجديدة، في المجالين: الخلقي والاجتماعي.
ولسوف نجد أن الحركات التاريخية، ستتولد عما قريب من ذلك البحث الغامض، الذي امتزج بقلق قديم خلفته في الضمير الإسلامي منذ قرون كتب ابن تيمية، وهي الحركات التي ستخلع على العالم الإسلامي صبغته الراهنة.
هذه الحركات قد صدرت عن تيارين: تيار الإصلاح الذي ارتبط بالضمير المسلم، وتيار التجديد وهو أقل عمقاً، وأكثر سطحية، وهو يمثل مطامح طائفة اجتماعية جديدة تخرجت في المدرسة الغربية، ومن أمثلتها الحركة الجامعية التي قامت في (عليكرة) بالهند (1).
__________
(1) زعيم هذه الحركة هو السيد (أحمد خان) المصلح الإسلامي المشهور (1817 - 1898) وقد حدد لجامعته أغراضاً ثلاثة: أن تعم المسلمين الثقافة الغربية والشرقية في غير تعصب =
أما التيار الأول: فيبدو أنه قد خط طريقه في الضمير المسلم منذ عصر ابن تيمية، كما يخط تيار الماء مجراه في باطن الأرض، ثم ينبجس هنا وهناك من آن لآخر، وابن تيمية لم يكن (عالماً) كسائر الشيوخ، ولا متصوفاً كالغزالي، ولكن كان مجاهداً يدعو إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي. هذا التيار هو الذي أدى إلى تكوين إمبراطورية الموحدين القوية في إفريقية الشمالية على يد (ابن تومرت)، وهو الذي أدى إلى إنشاء دولة الوهابيين في الشرق على يد (محمد بن عبد الوهاب)، ثم اكتسحها محمد علي بإيعاز من الباب العالي، وتأييد من الدول الغربية عام 1820، ومع ذلك فقد بقي روح الوهابية حياً، حتى تمكن القائمون بها من الظهور مرة أخرى عام 1925 في صورة المملكة الوهابية الحديثة.
بيد أننا نلاحظ هنا أن هذه الحركة قد وجدت منذ سقوط الدولة الوهابية الأولى، أي منذ قرن تقريباً، الضمير الذي يعكسها لدى العالم الإسلامي الحديث، ضمير (جمال الدين الأفغاني)، الذي فرّ في شعف الجبال هرباً من طابع المهانة الذي كان يلصقه مجتمع ما بعد الموحدين بالفرد، ليجعل منه ضحية أو متملقاً.
لقد كان جمال الدين- إلى جانب أنه رجل (فطرة) - رجلاً ذا ثقافة فريدة عُدَّت فاتحة عهد (رجل الثقافة والعلم) في العالم الإسلامي الحديث، ولعل هذه الثقافة هي التي دفعت الشبيبة المثقفة على إثره في اسطنبول وفي القاهرة وفي طهران، وهي الشبيبة التي سيكون من بينها قادة حركة الإصلاح.
لقد حاول المستشرق (جب) أن يشكك في مواهب هذا الرجل العقلية،
__________
= ولا جمود، وأن يعنى فيها بحياة الطلبة الاجتماعية، وأن يعنى نظام الكلية بترقية العقل وترقية البدن، أي بالتربية والتعليم معاً. وقد كان المبدأ الذي سارت عليه هو: الإقبال على العلم والبعد عن السياسة، وإن كانت قد تعرضت من أجل هذا لنقد شديد. ((المترجم))
ولكن الذي لا شك فيه أنه أول من جرؤ منذ قرن على التحدث عن (الوظيفة الاجتماعية للأنبياء)، في عالم ساقط هو (عالم ما بعد الموحدين).
ولقد شاءت الأقدار أن تجعل من هذا الرجل في التاريخ الشاهد الصادق، والحكم الصارم على مجتمع انتهى أمره في هدوء إلى الانحلال، بينما أخذ الاستعمار يستقر على أرضه. ويبدو أن الباعث الحقيقي الذي غرس في ضمير هذا الرجل إرادة إصلاح مجتمعه إنما هو ثورة (السيباي) التي أخمدت بالدماء؛ لقد شهد جمال الدين في هذه المأساة مشهد الإفلاس الروحي والمادي في العالم الإسلامي، وهو إفلاس استتبعه فشل تلك الثورة وأكدته في صورة ما حركة (عليكرة) التي ظهرت بالهند عقب تلك الأحداث الدامية، ف كانت بمثابة خيانة للإسلام والمسلمين في نظر جمال الدين، وبذلك أعلن على الفور الحرب ضد النظم البالية، وضد الأفكار الميتة.
وكان هدفه الأول: أن يقوض دعائم نظم الحكم الموجودة آنداك، كيما يعيد بناء التنظيم السياسي في العالم الإسلامي على أساس (الأخوة الإسلامية) التي تمزقت في (صفين)، وبددتها النظم الاستعمارية نهائياً، وكان هدفه الثاني: أن يكافح (المذهب الطبيعي) أو (المذهب المادي) الذي يعتقد أنه كامن في تعاليم (أحمد خان) التي كان ينشرها في جامعة (عليكرة)، وأنه راجع إلى التأثير الخفي لأفكار الغرب، ولقد يبدو أن موقفه هذا يحمل طابع (الرجعية) إذا ما استخدمنا المصطلح الحديث، لا سيما أن هذه الحركة الجامعية المتهمة، قد اتضح فيما بعد أنها كانت عاملاً قوياً في نهضة الإسلام بالهند. ولكنا لكي نستطيع إصدار مثل هذا الحكم على رجل كان باعثاً- غير منازع- للحركة الإصلاحية الحديثة، ينبغي أن نثبت أن مجادلته لم تفد في توجيه تعاليم (عليكرة) فيما بعد، حين فرضت عليها تعديل اتجاهها.
ويبدو أننا هنا أمام حالة جد شبيهة بما جرى في الجامعة المصرية بعد قرن من الزمان، عندما نشر أحد أساتذتها إحدى النظريات الخطيرة (1)، هل يمكن لأحد أن يثبت في هذه الحالة أن موقف خصوم تلك النظرية- وخاصة السيد رشيد رضا- كان سلبياً سلبية لم يكن معها تأثير معدِّل لاتجاه الثقافة المصرية فيما بعد؟ ..
إن إثباتاً كهذا سيكون عرضة للتكذيب، حتى من جانب ما كتبه الدكتور طه حسين فيما بعد. وأية كانت وجهة الأمر فإن دور (جمال الدين) لم يكن دور مفكر يتعمق المشكلات لينضج حلولها، فإن مزاجه الحاد لم يكن ليسمح له بذلك، لقد كان قبل كل شيء مجاهداً، ولم تكن ثقافته النادرة سوى وسيلة جدلية، مهما هبطت أحياناً إلى مستوى الجماهير، فأصبحت وسيلة نشاط ثوري.
لقد كان لهذا النشاط أهمية نفسية وأدبية أكثر من أن تكون له أهمية سياسية في العصر الذي كان يعيش فيه، حين كان العالم الإسلامي غارقاً في خمود شامل، وكان من فائدة هذا النشاط أنه فجر المأساة الإسلامية في الضمير المسلم ذاته. ولكن يبدو أن استيقاظ هذا الضمير بما احتوى من مأساة، لم يكن جزءاً من خطة منهجية وضعها جمال الدين، فإن كتاباته القليلة التي تميزت بالجدل ضد الطبيعيين، أو ضد (أرنست رينان)، لا تثبت شيئاً من هذا. بيد أنه إذا لم يكن جمال الدين قائداً أو فيلسوفاً للحركة الإصلاحية الحديثة، فلقد كان رائدها، حين حمل ما حمل من القلق، ونقله معه أينما حل، وهو القلق الذي ندين له بتلك الجهود المتواضعة في سبيل النهضة الراهنة، وكان رائدها أيضاً حين جهد في سبيل إعادة التنظيم السياسي للعالم الإسلامي، وإن كان قد قصد بذلك التنظيم: تنظيم جموع الشعب وإصلاح القوانين، دون أن يقصد إلى إصلاح الإنسان الذي صاغه عصر ما بعد الموحدين.
لقد أدرك جمال الدين بصادق فطنته، ما أصاب مجتمعه من عفونة وفساد،
__________
(1) نظرية الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي) 1926.
فاعتقد أنه بدلاً من أن ينصرف إلى دراسة العوامل الداخلية التي أدت إلى هذا الوضع، يستطيع أن يقضي عليه، بالقضاء على ما يحيط به من نظم وقوانين.
وربما كان هذا الرأي صادقاً، لو أنه أدى إلى الثورة الضرورية، فإن الثورات تخلق قيماً اجتماعية جديدة صالحة لتغيير الإنسان، بيد أن جمال الدين لم يحسن تشخيص الدافع إلى تلك الثورة، وما كان لثورة إسلامية أن تكون ذات أثر خلاق، إلا إذا قامت على أساس ((المؤاخاة)) بين المسلمين، لا على أساس (الأخوة) الإسلامية- وفرق ما بين (المؤاخاة) وبين (الأخوة): فإن الأولى تقوم على فعل ديناميكي، بينما الثانية عنوان على معنى مجرد، أو شعور تحجر في نطاق الأدبيات.
و (المؤاخاة) الفعلية: هي الأساس الذي قام عليه المجتمع الإسلامي .. مجتمع المهاجرين والأنصار. فإذا كان جمال الدين باعث الحركة الإصلاحية ورائدها، وما زال بطلها الأسطوري في العصر الحديث (1)، فإنه لم يكن في ذاته (مصلحاً) بمعنى الكلمة.
وبذلك كان على الشيخ (محمد عبده) أن يواجه مشكلة الإصلاح في شتى نواحيه: كان الشيخ عبده مصرياً أزهرياً، ومصر منذ عهود سحيقة أمة زراعية مرتبطة بالأرض، أي أنها كانت على طول التاريخ مجتمعاً يتكون فيه الفرد وسط جماعة، فهو لذلك مزود بغريزة الحياة الاجتماعية، والأزهر من ناحية أخرى كان يمد الحياة الاجتماعية بعقليات متمسكة بدينها، محافظة على أصولها.
وبهذا التكوين واجه الشيخ عبده مشكلة الإصلاح، فبعد أن أدرك حقيقة
__________
(1) تحدث الكاتب الجزائري (علي الهمامي) - المقيم الآن بمصر- عن السيد جمال الدين الأفغاني في كتاب له عن سيرته فقال: ((لسوف تذكر البلاد الإسلامية جميعاً اسم جمال الدين كما تذكر بلاد اليونان اسم (هوميروس) بين الخالدين من أبنائها)) 1954.