المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف الردّ على مَن يقول إن الفتوحات الإسلامية نوع مِن الاعتداء ؟



مشكاة الفتاوى
05-26-13, 11:42 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأنعم الله على فضيلتك ووفقك وسددك ويسر أمرك وكفاك وأغناك وجعلك ظهيرًا للحق
فضيلة الشيخ ظهر قبل أيام الدكتور صلاح الراشِد في إحدى القنوات وتحدّث عن مسألة نشر الإسلام مِن خلال الفتوحات والغزوات الإسلامية
فقال : الدول التي دخلها الإسلام سِلمًا مثل إندونيسيا وماليزيا والمالديف بقيت دول إسلامية وبقي الإسلام فيها ، أما الدول التي دخل فيها الإسلام بالحرب فلم تبقَ دول إسلامية ولم تعُد موجودة كدولة إسلامية
وضرب مثالاً لذلك بأوربا حيث قال أن المسلمين بقيوا يقاتلون أوربا 700 سنة ثم تركوها
ثم قال : ليس مِن الجهاد أن تقتحِم دول الآخرين وتجبرهم على الإسلام ، وهذا ليس جهادًا بل هو اعتداء
وقال : أنا أجاهد لما أحد يغزو بلدي .. لما أحد يتعرض لي
لما يكون فيه أقليات وعندي قوة أضطر لأن أحمي هذه الأقليات
مثل ما فعل المسلمون في البدايات
وقال : نِظام الجزية هو عبارة عن ضريبة تؤخذ مِن الكافِر الذي نشأ في دولة الإسلام ثم رفض الجهاد مع المسلمين ، وهذا قانون يُطبّق في بعض الدول العربية حيث أنها تأخذ ضريبة على الذين يرفضون التجنيد .
ثم تحدّث عن الفتوحات في عهد عُمَر رضي الله عنه وقال : أنا لا أعتقِد أن عُمر يجرؤ على الاعتداء على الناس .
ثم قال : كان هناك ظُلم واقِع على بعض الأقليات وكانت الرومان مستعمِرة الشام لذلك حاربها المسلمون .
وقال عن مصر أنها لم يدخلها الإسلام بواسطة فتوحات ومعارِك وإنما كان هناك اتفاقيات
وذكر أنه يشكك في روايات التاريخ وقال : التاريخ مكتوب من وجهة نظر الكاتِب ولم ينقل لنا الحقائق بصِدق .
فما رأي فضيلتك في مثل هذا ؟
وهل صحيحٌ أنه لا يجوز غزو بِلاد الكفار لنشر الإسلام وأن هذا نوع مِن الاعتداء ؟
وهل مفهوم الجهاد ينحصر في الدفاع عن النفس ؟
وشكر الله لك وجزاك الله كل خير ودافع الله عنك ، ودفع بك الشُّبهات ورزقك مِن العِلم والرحمة والخيرات .

http://www.almeshkat.net/vb/images/bism.gif

الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
آمين ، ولك بمثل ما دعوت .

كثيرا ما يَدعو الكُتّاب إلى احترام التخصص !
وما ذُكِر في السؤال مِن أعاجيب الدكتور المذكور .
وهو قد خَبَط في هذه المسائل خَبْط عشواء .
وكثير ممن يتكلَّم أو يَكتُب ، يُراعي نَظرة الغَرْب إليه ! فيأتي كلامه مُحرَّفا ومُحَرِّفًا ، ومُغيِّرا ومُبدِّلا للحقائق الشرعية والتاريخية .

والردّ عليه مِن وُجوه :
الوجه الأول : أنه اعتبر الدول التي افتُتِحت عن طريق الجهاد ، لم تَبْق دُوَلاً إسلامية ، كما زَعَم .
وهذا غير صحيح ؛ فإن أشْرَف البلدان : مكّة ، وهي قد فُتِحَت بالقوّة ، كما هو معلوم ، لا يُنكره إلاّ مكابر (كما سيأتي في " الوجه الرابع " ) ، ومع ذلك هي بلد الإسلام ، وإليها يأرِز ويأوي الإسلام ، وهي مأوى أفئدة المسلمين إلى أن يَرِث الله ومَن عليها .
وبلاد الشام والعراق ، افْتُتِحت بالجهاد ، ومثلها الشمال الأفريقي .
ومثلها بلاد خُراسان وأفغانستان ، فإن كابُل افتُتِحت في زَمن عمر رضيَ اللّهُ عنه .

ولا تزال تلك الدول مِن بلدان المسلمين ، وإن غَزاها الكفار أوْ احْتَلُّوا بعضها فترة مِن الزمن ، إلاّ أنها لم تَرْجِع إلى حَوزة الكفار التامة .

الوجه الثاني : عدم التفريق بين طبائع أهل البلدان ، مما هو معروف في عِلْم الاجتماع .
فأهل المشرق ليسوا مثل أهل أوربا ، بل ذَكَر ابن بطّوطة في " رِحلته " أن أهل سرنديب (سيرلانكا) ليسوا مثل أهل الهند في تعاملهم وتعصّبهم !

وعقائد أهل المشرق ليست مثل عقائد الأوربيين ( الصليبية ) ، يُضاف إلى ذلك : كَوْنهم أهل كِتاب .

بالإضافة إلى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن طبائع الروم وطبائع غيرهم ، كما في إخباره عليه الصلاة والسلام عن الروم النصارى .
قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ . فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : أَبْصِرْ مَا تَقُولُ !
قَالَ : أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !
قَالَ : لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالا أَرْبَعًا ؛ إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ ، وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ . رواه مسلم .
فالرُّوم يتميّزون بالكثرة والصبر على دِينهم .
وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ .

لهذه الأسباب ولِغيرها : لا يُمكن مُقارنة الأوربيين بغيرهم مِن الأمم ، ولا أن يُجْعَل ما حصل في أسبانيا ، واستعادة النصارى لها ، حُكْمًا على فشَل الجهاد ، أو أن الدول التي دَخَلها الإسلام عن طريق الجهاد ، أنها لا تبقى دولا إسلامية !

وقِتال المسلمين في أوربا ، وفَتْحهم لأسبانيا ، وحُكمهم لها عِدَة قُرون ، لا يَعني أن ما فُتِح عن طريق الجهاد لا يبقى ؛ لأن لذلك عوامل كثيرة منها :
1 - طبيعة النصارى ، وطبيعة الشعوب الأوربية ، كما تقدَّم .
2 - تنازع المسلمين في دويلات وطوائف يُقاتِل بعضها بعضا ، أضْعَفَت الحكم الإسلامي في أسبانيا .
3 – سُنن الله التي لا يُحابَى فيها أحد ، فإن المسلمين إنما انتصروا في أوّل دخولهم أوربا لقيامهم بأمْر الله ، وخُذِلوا في آخر الأمر لتضييعهم أمْر الله .

الوجه الثالث : أنه شَكَّك في التاريخ ، وذلك لأنه مكتوب من وجهة نظر الكاتِب ، كما زَعَم الدكتور .
فأقول : قد يَصْدُق هذا لو كان الكاتب واحد ، فإنه قد يَنقل التاريخ مِن وُجهة نَظره !
أما أن تتناقله الأمة ، ويُؤلِّف في التاريخ عالم في المشرق وآخر في المغرب ، وثالث في جزيرة العرب ورابع في اليمن وخامس في العراق .. ثم يتّفقون على تلك الأخبار ، فإن هذا يبعد أن يكون مِن وجهة نَظر الكاتب ، أو أنه تُعمِّد إخفاء الحقائق ! هذا مِن جِهة .

ومِن جِهة ثانية : أن المؤرِّخ لا يَكتفي بأن يسوق وُجهة نَظره ، بل هو يَروي ما يذكره مِن أحداث التاريخ بأسانيده ، فهو ينقل عن شيوخه وشيوخه يروون عن شيوخهم ، وربما كان بينه وبين مَن ينقُل الْحَدث أو الغزوة أو الواقعة ثلاثة رُواة أو أربعة .

ومِن جِهة ثالثة : أن علماء الأمة لم يَكونوا يُلْغُون عقولهم أمام ما يتناقلونه مِن التاريخ والسِّيَر ، بل كانوا ينقدون ويُمحِّصُون ، ويُبيّنون ما أصاب فيه المؤرِّخ مما أخطأ فيه .
وعلى سبيل المثال : ابن كثير مؤرِّخ متأخِّر ، وابن جرير مؤرِّخ مُتقدِّم ، فقد ينقل ابن كثير عن ابن جرير وينقد ما نَقَله ، وقد يُبيِّن الصواب في واقعة ، أو غير ذلك ، مما يُعْلَم أن كُتب التاريخ لا تُعبِر عن وجهة نَظر كاتبها فحسب .

ومِن جِهة رابعة : أنه لا يُنكر حقائق التاريخ إلاّ مُكابِر أو مُعانِد .
وحقائق التاريخ تُثبِت أن قبور الصحابة مُنتشرة في الشام وفي حمص على وجه الخصوص .
حتى ذَكروا أن قبر خالد بن الوليد في حمص .

وقد يُنكِر المكابِر كون مصر فُتِحت بالجهاد ، ولكنه لا يستطيع أن يُنْكر أن الشام والعراق افتُتِحت بالجهاد .

ومع ذلك ، فالدكتور لم يأتِ ببيّنة على أن مصر لم ُتفتتح بالجيوش !
وَلَيْتَه أثبت لنا واقِعة واحدة ، أوْ ساق إثباتا واحدا على صِحّة ما يذكره !
وإنما هو كلام عاطفي ! نحو قوله : (أنا لا أعتقِد أن عُمر يجرؤ على الاعتداء على الناس)

الوجه الرابع : لازِم قوله وفَهْمِه : أن الجهاد اعتداء !
فهو يقول : (أنا أجاهد لما أحد يغزو بلدي .. لَمَّا أحد يتعرّض لي)
وهذا قول باطِل ، ولو صحّ هذا الفَهْم ، لَكانت كثير مِن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بِما فيها " فتْح مكة " : اعتداء !
فالنبي صلى الله عليه وسلم افتتح مكة بِالقُوّة ، وفي صحيح البخاري أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ .
قال الشيخ الشنقيطي في تفسيره : وَالْحَقُّ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً . وذَكَر أن هذا قول جمهور أهل العِلْم .
وغزا النبي صلى الله عليه وسلم الطائف ، ولم يَكن غزوها إلاَّ فَتْحًا لها ، لم يَكن دِفاعا عن المدينة .

وهذا الذي ذَكَره الدكتور (أنا أجاهد لما أحد يغزو بلدي) ، إنما يَصِحّ في تعريف جِهاد الدَّفْع .
ومِنْه : غزوة أُحُد ، وغزوة الأحزاب ( الخندق ) فهي من الغزوات التي دافَع فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة ؛ لأن المشركين غَزَو المدينة ، وأما سائر غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه فهي طَلَب ابتداء وليست دِفاعا .

ومعلوم أن الله عزَّ وَجَلّ أمَر نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم بِقِتال الكفار كافة ، وهذا آخر الأمر مِن التدرّج في قتال الكفار .
والغاية العُظْمَى مِن ذلك : هي تعبيد الناس لِرَبِّ الناس .
قال عليه الصلاة والسلام : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ . رواه البخاري ومسلم .

وهذا ما فَهِمه الصحابة رضيَ اللّهُ عنهم ، بل ما فَهِمته الأمة وأطْبَقَتْ عليه ، حتى وَصَلَت جيوش المسلمين حدود الصين شرقا ، وحدود فرنسا غربا !
وهذا هو جِهاد الطَّلَب .
وكانت جيوش المسلمين تغزو المشرق ، فقد كان جيش محمد بن القاسم يَغزو السِّنْد .
وجيش قتيبة بن مسلم يغزو مَرْو وخُرَاسَان .

كل هذا والصحابةُ رضيَ اللّهُ عنهم مُتَوافِرون ما يُنْكِرُون مِن ذلك شيئا .

والجهاد في سبيل الله ليس اعتداء على أحد ؛ لأن الجهاد ليس هو الْحَلّ الأول وليس هو السبيل الأوْحَد ، وإنما يُقاتَل مَن لم يًقبل بأحَدِ الحلول التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عليها جيوشه .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سَرية أوْصَاه في خاصَّتِه بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرًا ، ثم قال : اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تَغُلُّوا ، ولا تغدروا ، ولا تُمَثِّلوا ، ولا تَقتلوا وليدًا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم :
ادْعُهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقْبَل منهم وكُفّ عنهم ، ثم ادْعُهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فَلَهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبَوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعْرَاب المسلمين يَجْرِي عليهم حُكْم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هُم أبَوا فَسَلْهُم الجزية ، فإن هُم أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم ، فإن هُم أبَوا فاستعن بالله وقاتِلهم . رواه مسلم .

وعندما يَنْزِل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان لا يَقبَل مِن الناس إلاّ الإسلام ، فلا يَقبَل منهم جِزية ، ويكسر الصليب .
قال عليه الصلاة والسلام : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ. رواه البخاري ومسلم .
قال ابن عطية : وأجْمَعَتِ الأمّة على ما تَضَمَّنه الْحَدِيث الْمُتَواتِر مِن أنَّ عِيسى عليه السلام في السَّمَاء حَيّ ، وأنه يَنْزِل في آخِر الزَّمان ؛ فيَقْتُل الْخِنْزِير ، ويَكْسر الصَّلِيب ، ويَقْتُل الدَّجَّال ، ويَفِيض العَدْل ، ويُظهِر هذه الملة مِلّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويَحُجّ البيت ويَعْتَمِر . اهـ .

وهذا الحديث يدلّ على بقاء الجزية وبقاء حُكمها إلى وقت نُزول عيسى ابن مريم ، وليس كما يَزعم بعض الكُتَّاب مِسن سُقوط الجزية أو اختصاصها بِأحوال مُعيّنة ، كما ذكر الدكتور في كلامه أعلاه !

وبقاء الجزية يعني بقاء الجهاد .
وقد عقد الإمام البخاري - رحمه الله - بابا ، فقال : باب الجهاد ماض مع البر والفاجر ؛ لِقَوْل النبي صلى الله عليه وسلم : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة . ثم ساق بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم .

ويوم أن كانت الأمة تغزو أعداءها كانت في عِزّ وقوّة ومَنَعَة .
ويوم أن تركت الجهاد ذلَّتْ وغُزِيَت في عُقْر دارها ، وأذلّها أعداؤها ، واحتلوا أراضيها ، بل وجزء مِن مُقدّساتها .

مِن أجل ذلك جاء الحث على إعداد القوة وإظهارها ، إرهابا للعدو (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) .
وجاء الحث على الجهاد ، وأمَرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بِتحريض المؤمنين على القتال ، فقال : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)
وتحديث النَّفْس به ، والترهيب مِن تركه ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ . رواه مسلم .

ولا عِزّة لهذهِ الأمَّةِ إلاّ في الجهادِ في سبيلِ اللهِ . ولا يَسْتَقِيمُ أمْرُ هذا الدِّين إلاّ بإقامةِ هذهِ الشعيرةِ العظيمةِ ، كما قال الله عزّ وَجَلّ : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : فَالْكِتَابُ يَهْدِي ، وَالسَّيْفُ يَنْصُرُ ، وَكَفَى بِرَبِّك هَادِيًا وَنَصِيرًا . وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ النَّاسِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْحَدِيدِ ، كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: صِنْفَانِ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ : الأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ . اهـ .
وقوله : " كَانَ قِوَامُ النَّاسِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ " يعني بِهم : أهل العِلْم .

وقالَ ابنُ القيمِ : أمَّا الْمُعَارِضُون الْمُدَّعُونَ للحَقِّ فَنَوْعَان :
نَوْعٌ يُدْعَون بِالْمُجَادَلةِ بِالتي هي أحْسَنُ ، فإن اسْتَجَابُوا ، وإلاَّ فَالْمُجَالَدَةُ ؛ فهؤلاء لا بُدّ لَهم مِن جِدَالٍ أوْ جِلادٍ ، ومَن تَأمَّلَ دَعْوةَ القُرْآنِ وَجَدَها شَامِلَةً لِهَؤلاء الأقْسَامِ، مُتَنَاوِلَةً لَها كُلَّها ، كَمَا قَال تَعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
فَهَؤلاء الْمَدْعُوُّون بِالكَلامِ ، وأمَّا أهْلُ الْجِلادِ فَهم الذِين أمَرَ الله بِقِتَالِهم حتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لله . اهـ .
وما اسْتَبَدَّ الطُّغاةُ بأمِّةِ الإسلامِ ، وتَسلَّطَ عليهم أعداؤهم إلاَّ يومَ أن تَرَكَتِ الأمَّةُ الجهادَ في سبيلِ اللهِ .
وهذا ما أخبَرَ بهِ مَن لا ينْطِقُ عن الهوى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بِقَولِه : إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاَّ لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ . رواه الإمامُ أحمد وأبو داود ، وصححَه الألبانيُ .

وقد نصَّ العلماءُ على أنَّ أَقَلَّ الْجِهَادِ مَرَّة فِي كُلِّ عَامٍ .
قال البغوي في تفسيره : وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي الْجُمْلَةِ فَرْضٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ ؛ فَفَرْضُ الْعَيْنِ أَنْ يَدْخُلَ الْكُفَّارُ دَارَ قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مِنَ الرِّجَالِ مِمَّنْ لا عُذْرَ لَهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ الْخُرُوجُ إِلَى عَدُوِّهِمْ ؛ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ جِيرَانِهِمْ، وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَإِنْ لم يقع الْكِفَايَةُ بِمَنْ نَزَلَ بِهِمْ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَوْنُهُمْ، وَإِنْ وَقَعَتِ الْكِفَايَةُ بِالنَّازِلِينَ بِهِمْ فَلا فَرْضَ عَلَى الأَبْعَدِينَ إِلاَّ عَلَى طَرِيقِ الاخْتِيَارِ، وَلا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْعَبِيدُ وَالْفُقَرَاءُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ قَارِّينَ فِي بِلادِهِمْ، فَعَلَى الإِمَامِ أَنْ لا يُخَلِّي سَنَةً عَنْ غَزْوَةٍ يَغْزُوهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِسَرَايَاهُ حَتَّى لا يَكُونَ الْجِهَادُ مُعَطَّلا . اهـ .

قالَ ابنُ قدامةَ : وَأَقَلُّ مَا يُفْعَلُ مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ ... إلاَّ مِنْ عُذْرٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ فِي عَدَدٍ أَوْ عُدَّةٍ، أَوْ يَكُونَ يَنْتَظِرُ الْمَدَدَ يَسْتَعِينُ بِهِ، أَوْ يَكُونَ الطَّرِيقُ إلَيْهِمْ فِيهَا مَانِعٌ أَوْ لَيْسَ فِيهَا عَلَفٌ أَوْ مَاءٌ، أَوْ يَعْلَمَ مِنْ عَدُوِّهِ حُسْنَ الرَّأْيِ فِي الإِسْلامِ ، فَيَطْمَعَ فِي إسْلامِهِمْ إنْ أَخَّرَ قِتَالَهُمْ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَرَى الْمَصْلَحَةَ مَعَهُ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِهُدْنَةٍ ... وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْقِتَالِ فِي عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَجَبَ ذَلِكَ ؛ لأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، فَوَجَبَ مِنْهُ مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ . اهـ .

وما نُزِعَت رهبة أمة الإسلام مِن صدور أعدائها إلاّ يوم أن تركت الجهاد .
وهذا ما أخبر به الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ، بِقولِه : يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا . فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ . فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ . رواه أبو داود ، وصححَه الألبانيّ .
وفي حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللّهُ عنه : قَالُوا : وَمَا الْوَهَنُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ . رواه الإمام أحمد ، وقال الهيثمي : رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ بِنَحْوِهِ، وَإِسْنَادُ أَحْمَد جَيِّد .

ولِيُعْلَم أن الجهاد والقتال لم تنفرد به الشريعة الإسلامية ، بل هذا ما جاءت به الشرائع مِن قبل . وهو مُثبَت عند النصارى إلى اليوم في كُتُبهم !

ويكفي في شذوذ أقوال الدكتور أنه لا يُعرَف لها قائل مِن أهل العِلم الراسخين .
أي : أنه لم يَقُل أحد مِن أهل العلم أنه لا يُغزَى العدو ، ولا يُقاتَل الكُفار ، إلا في حال الدفاع !
ولم يَقُل أحد بهذا القول إلاّ في زمن الخضوع والذّلـة والخنوع !

وسبق :
ما نصيحتكم لشاب يستنكر وينكر الجهاد والأحاديث النبويّة ويسخر بها وبأسانيدها ؟
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=72317

كيف نَرُدّ على بعض الدعاة الذين حَرَّفُوا الجزية
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=84940

هل الجِزية يدفعها أهل الكتاب الْمُعْتَدُون أم جميع أهل الكتاب ؟
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=87053

هل حدث في تاريخ المسلمين إسقاط الجزية عن اليهود والنصارى
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=88574

من أحكام الجهاد في الإسلام
http://almeshkat.net/books/open.php?cat=11&book=842

هل الإسلام انتشر بالقوة والسيف؟ وما معنى حديث "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي" ؟
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=111945

ما هو مفهوم الراية في الجهاد ؟
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=35350

هل نوطئ الخيل تُخوم أرض الروم ؟
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=14155

طبع الذئب محبة الدم !
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=26419

هل التفجيرات في بلاد الغرب من الجهاد ؟
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=37598

موقف المسلم مما يَحدث من أعمال تفجير وعُنف
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?p=534218

والله تعالى أعلم .

المجيب الشيخ / عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
عضو مكتب الدعوة والإرشاد